سيناريو شركة «بيشة» خير مثال لاستخلاص العبر

الوقوف على أطلال (الظاهرة البيشية)

رانية سليمان سلامة

(يوضع سره في أضعف خلقه)، مثل شعبي ينطبق على شركة بيشة الزراعية التي كان سعرها في مثل هذا اليوم من العام الماضي يوحي بأنها تزرع (الطاقة النووية) المشتقة من (نوى التمور)... من تلك الشركة الصغيرة التي لم يكن أحد يهتم بوجودها على الشاشة انطلقت شرارة المضاربات وانتشرت ثقافة التكتلات، وفي اليوم التالي لملامستها قمتها السعرية انهار السوق وواصل مسيرة الهبوط حتى تاريخه... واليوم يؤذن إيقاف سهم بيشة بعهد جديد قد نشهد خلاله إعادة تنظيم للسوق.

تلك المسيرة (البيشية) تستحق الوقوف على الأطلال، وخلافاً لعشاق المثل الشعبي (إذا طاح الجمل كثرت سكاكينه) أرى أنه من الإنصاف (أن نذكر محاسن موتانا) أثناء التشريح.

كنت أعتقد قبل كتابة هذا المقال أن أبرز ما في بيشة هو سعرها ولكن بعد الرجوع إلى موقع تداول اكتشفت أن سرها كان في إعلاناتها التي تختصر قصتها... تلك القصة بدأت منذ عام 1994م حيث كانت الإعلانات عبارة عن (تكبدها للخسائر، وطلب تسديد القسط الثاني من قيمة الأسهم المكتتب بها في رأس مال الشركة، وتمديد مهلة التسديد، ودعوة الترشيح لعضوية مجلس إدارتها، ودعوة لحضور الجمعية، وتأجيل انعقاد الجمعية لعدم اكتمال النصاب).

صدق أو لاتصدق!! استمرت تلك الإعلانات تتكرر بنفس الصيغة تقريباً (قص ولزق) لمدة 11 سنة والشركة لاتسمع سوى (صدى صوتها) فلا يبدو أنه كان هناك جهاز رقابي أو جهة بوسعها إعادة تقييم وضع الشركة الخاسرة، كما أن مساهميها أنفسهم كانوا في سبات عميق... استمر سيناريو الإعلانات اليائسة بصوتها المبحوح مع تغيير بسيط في (السيمفونية) التي تعزفها لتصحبها مقطوعة (تجزئة قيمة السهم الاسمية لتصبح 50 ريالاً بدل 100 ريال) وبوسع تلك السيمفونية أن تدخل موسوعة جينيس كأطول سيمفونية غير مسموعة ظلت الشركة تعزفها وفقاً لأرشيف موقع تداول منذ نهاية عام 2001م بنفس الرتم الرتيب ونفس النتيجة حتى عام 2006م عندما شنف المضاربون آذانهم بها وأضافوا (لأوركيسترتها) الطبول بعدما فطنوا إلى أن بيشة هي (أم المُحفزات) في الوقت الذي كانت فيه شركات السوق تفتقد لوجود محفزات حقيقية معلنة توقظها من سباتها.

الشركة (المنبوذة) أصبحت بين عشية وضحاها (الدجاجة التي تبيض ذهباً) وصدق المثل إذ قال (لكل فولة كيال)، أما كيالوها فكانوا أولئك الذين استثمروا محفزاتها النائمة في ثغرات النظام... فهي في مكيالهم كانت (ابنة شرعية) لسوق غض الطرف لسنوات عن خسائرها وباركها قائلاً (لاتثريب عليك سنغفر لك فشلك الذريع)، وقلة عدد أسهمها كان إشارة ملهمة للبيب ليدرك مدى سهولة السيطرة على السهم، ومقاعد مجلس الإدارة كانت شاغرة، وفوق كل ذلك كان في جعبتها تجزئة مع وقف التنفيذ لاتنتظر سوى انعقاد جمعية ظلت معلقة لسنوات بسبب عدم اكتمال النصاب.

يُقال إن العاصفة يسبقها هدوء وأثبت علم الاجتماع خطورة الفئات التي تعاني من الاضطهاد والتجاهل في مجتمعها، بينما أثبت سوق المال أن هذه النظرية الاجتماعية تنطبق على الشركات الاستثمارية والدليل بيشة التي انتفضت محذرة سوقها بأن يتقي شر الحليم إذا غضب بعد أن تحولت أسهمها إلى أيدي (المضاربين الجدد) في عملية -للإنصاف- لابد أن نعترف أنهم لم يصنعوا عناصر نجاحها ولكنهم وجدوها متاحة في السوق فتجاوبوا معها واستجابوا لندائها.

ووقوفاً على الأطلال أستعرض معكم حركة السهم الرشيق في بحر السوق العميق، ففي يناير 2002م كان سعر السهم (ريال سعودي) و75 هللة... وفي عام 2003م وصل سعر السهم إلى 5 ريالات، وفي يناير 2004م لامس سعر السهم 17 ريالاً، أما في يناير 2005م كان سعره 20 ريالاً، حتى قطع (المضاربون الجدد) تذكرة (ون واي) للسهم فانطلق (بأسعار ما قبل تجزئة السوق) من 150 ريال في أكتوبر 2005م إلى حوالي 1400 ريال، عندها انعقدت أخيراً الجمعية بنصاب مكتمل في (مكان على مستوى القعدة) هو (فندق هيلتون جدة) وتمت تجزئة الأسهم ليصبح لدى كل مساهم ضعف عدد الأسهم التي يملكها بنفس نسبة الربح، ويضع المضاربون السهم من جديد على طريق (هاي واي) لينطلق من 700 ريال تقريباً إلى 2497ريال.

لا أحد يعرف عدد أفراد التكتل الذي حمل لواء المضاربة في بيشة ولاعدد من جذبتهم تلك المغامرة فشاركوا معهم بقلب الأسد، لكن كل المتعاملين والمتابعين للسوق شاركوا بحضور مولد أثرياء (الطفرة البيشية) وأصحاب الثروة التاريخية التي تكونت في خلال أقل من 4 أشهر.

ويداخلني شك في أن تكتل مضاربي السهم أنفسهم كان خيالهم يتوقع الوصول إلى تلك الأرقام الفلكية -إذا ما صح توقعي بأنهم قد بدأوا بالتجميع في السهم من سعر 150 ريالاً-... والأقرب للتصديق أنهم قد خططوا لرفعه بضع مئات من الريالات قبل أن يفلت زمام السهم ويقوده تدافع أفواج (المذهولين) بحركته والذين أصبح بوسعهم تصديق أي سعر مستهدف يتم الترويج له في الصالات والمجالس والمنتديات أو عبر الجوالات، فقد كان من الواضح أن محرك السهم لم تعد له مكابح بعد تجاوز حاجز الألف ولم يكن ليتوقف عن الصعود إلا بحادث أليم يصطدم فيه بحاجز عنيد.

التعريف الشعبي (المشروع) في سوقنا لمحفزات الأسهم هو الإعلانات الرسمية الصادرة من الشركة على موقع تداول وإعلانات الهيئة نفسها، أما التعريف (غير المشروع) فهو الشائعات التي سأضعها جانباً وأكتفي بأن الإعلانات الرسمية كانت تؤكد بشكل غير مباشر أن وضع الشركة سليم بالرغم من إعلانها عن خسائرها، وأنها كانت تنفرد بمحفز تجزئة القيمة الاسمية التي ساعد تأجيلها مع تكرار الإعلان عنها على تنبيه المضاربين ومنحهم متسعاً من الوقت للعزف على هذا الوتر والوصول بالسهم لأسعار خيالية على مراحل، وبالرغم من الهزة العنيفة التي زلزلت أسعار جميع الشركات تمكنت بيشة من تقليص خسائرها مستندة مجدداً إلى إعلانات نشرت على موقع تداول تفيد بخضوع جميع معاملاتها المصرفية لأحكام الشريعة الإسلامية وعدم وجود شبهة ربوية، بالإضافة إلى سيناريو كاد أن يتكرر بإعلانات متتالية عن زيادة رأس مال الشركة من 50 مليوناً إلى 200 مليون ريال... الظاهرة البيشية سبقتها أو ربما استنسختها (شركات) أخرى من فئة (النكرات) خلفت وراءها أثرياء قد يكونون اليوم أصبحوا حفاة عراة لكن يبقى سيناريو بيشة خير مثال بوسعنا أن نستخلص الحكمة منه من خلال تحليل جميع عناصره دون انتقائية أو تجاهل لدور أي منها في تشكيل هذه الظاهرة وصولاً لهذا المصير.

 


رئيسة تحرير مجلة عربيات الإلكترونية
[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ