سيرة ومكانة عظيمة في الدارين

السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها

لقد كان للمرأة المسلمة دور هام في المجتمع الإسلامي منذ أول ساعات الرسالة الخالدة.. فمن حكمة الله  أن جعل أول من يؤمن بالإسلام امرأة.. وهي ليست كغيرها من النساء.. بل هي خير النساء  خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها التي لعبت دوراً كبيراً في حياة النبي عليه الصلاة والسلام وبذلت مالها وثروتها في سبيل نشر هذه الدعوة.. وضربت مثالاً رائعاً للمرأة العاملة لم تصل إلى تحقيقه جميع الحضارات المعاصرة .... فكانت تاجرة محنكة وصاحبة مال وقرار وحكمة.. واقترنت بخاتم الأنبياء وأنجبت له الأبناء والبنات... فكانت لها سيرتها العطرة في الحياة ومكانتها العظيمة في الجنة... وضي الله عنها وأرضاها.

نسبها ونشأتها

هي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى  قصي بن كلاب القرشية الأسدية... .ولدت سنة 68 للهجرة (556 م) و تربت وترعرعت في بيت مجد ورياسة، نشأت على الصفات والأخلاق الحميدة، عرفت بالعفة والعقل والحزم حتى دعاها قومها في الجاهلية بالطاهرة... أما أمها فهي (فاطمة بنت زائدة بن الأصم)،  يتصل حبل نسبها بالشجرة النبوية المباركة.

كان لخديجة مكانة رفيعة في قومها ، لصباحة وجهها ، وجمال نفسها  إضافة إلى حسبها ونسبها  فتزوجها ( عتيق بن عابد ) ، من بني مخزوم ، فولدت له ( هنداً بنت عتيق ) ، ومات عنها.... فتزوجها بعده ( أبو هالة ) ، ( مالك بن النباشّ بن زُرارة ) فولدت له : ( هنداً بنت أبي هالة ) ، و( هالة بنت أبي هالة ) ، ولم يعش أبو هالة طويلاً ، فترملت خديجة مرة ثانية ، ورفضت الزواج و تفرغت للتجارة فهي ذات مال تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم بشيء تجعله لهم, وكان القرشيون قوما تجارا, فلما بلغها عن الرسول عليه الصلاة والسلام ما بلغها من صدق حديثه, وعظم أمانته وكرم أخلاقه, بعثت إليه, فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجرا, وتعطيه أفضل مما كانت تعطي غيره من التجار, مع غلام لها يدعى ( ميسرة ) فقبله الرسول صلى الله عليه وسلم منها, وحانت ساعة الرحيل فانطلق الركب من مكة إلى الشام وكان الجو حاراً ولكن شيئاً شَدَهَ المرافقين للأمين وحيّرهم أثناء سيرهم ، ذلك أن غمامة كانت تُظَللُهُ أينما سار ، وحيثما اتجه ، فتجعل طريقة وطريقهم برداً وسلاماً ، فأعجب به أولئك الرجال أيّما إعجاب وسحروا بأخلاقه وصفاء نفسه.

وبالقرب من بُصرى الشام ، استرح القوم من وعثاء السفر فانتحى محمد الأمين ناحية وجلس تحت ظل شجرة قريبة منهم ، وأخذ يجيل بصره فيما حوله متأملاً . أما( مَيْسرة ) فذهب ليزور بعض معارفه في ذلك المكان . وفي الطريق قابل راهباً اسمه ( نسطور ) فسأله ذلك الراهب عن الشخص الجالس تحت ظل الشجرة فقال :

من قريش ، من أهل الحرم... فقال نسطور : ما نزل تحت هذه الشجرة قطُّ إلا نبيّ ( أراد : مانزل تحتها هذه الساعة إلا نبيّ ، ولم يقصد غير ذلك ).. وهرول الراهب نحو النبي صلى الله عليه وسلم وهو يردد قوله  :ليتني أُدرك وقت نبوّته... وعندما اقترب منه تأمله طويلاً ، ثم عاين النقطة التي بين كتفيه ، وهي علامة النبوّة ، وعاد بعد ذلك إلى صومعته مسحوراً بما رأى .

عاد النبي عليه السلام ، من رحلته تلك بربح كثير لم تشهد خديجة ولا مولاها مثله ، فازداد إعجابها به . وسرد ميسرة على خديجة قصة الغمامة التي كانت ترافقه ، وحكى لها ما دار بينه وبين الراهب نسطور من حديث يبشّر بنبوّته .

 

زواجها برسول الله صلى الله عليه وسلم

عرضت خديجة على محمد الأمين الزواج منها ، عن طريق مولاتها نفيسة فوافق عليه السلام وكانت السيدة خديجة في الأربعين من عمرها ، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الخامسة والعشرين.... أثمر هذا الزواج  عدد من الأبناء هم :  الذكور ولدان ( وقيل ثلاثة وقيل أربعة ) هلكوا جميعاً في الجاهلية ... وأربعة من الإناث هم : ( زينب ، رقية ، أم كلثوم ، فاطمة الزهراء ) رضي الله عنهم وأرضاهم.

 

إسلامها

روى الإمام البخاري في صحيحه وغيره عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنه عندما رجع رسول الله صلى الله وسلم أول ما أوحي إليه من غار حراء (فدخل على خديجة بنت خويلد- رضي الله عنها- فقال: زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد - ابن عم خديجة- وكان امرأ تنصر في الجاهلية فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال لها: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى (أي في الغار). فقال ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟ قال نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا) .

وآمنت به خديجة بنت خويلد ، وصدقت بما جاءه من الله ووازرته على أمره وكانت أول من آمن بالله وبرسوله وصدق بما جاء منه فخفف الله بذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم لا يسمع شيئا مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه به إذا رجع إليها ، تثبته وتخفف عليه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس رحمها الله تعالى ... وقدمت كل ثروتها في سبيل إعلاء كلمة الله ونصرة رسوله الكريم...

 

منزلتها

السيدة خديجة رضي الله عنها كانت أحب زوجات الرسول إليه ، ومن كرامتها أنها لم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت.

قال ابن هشام : أتى جبريل عليه السلام رسول الله فقال: هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني وبشرها ببيت في الجنة من نصب لا صخب فيه ولا نصب ..... فلما جاءت خديجة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لها:إن الله يقرأ على خديجة السلام.... قالت: خديجة بنت خويلد : إن الله هو السلام ومنه السلام و على جبريل السلام ...

وقول خديجة : الله السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام علمت بفقهها أن الله سبحانه لا يرد عليه السلام كما يرد على المخلوق لأن السلام دعاء بالسلامة فكان معنى قولها : الله السلام فكيف أقول عليه السلام والسلام منه يسأل ومنه يأتي ؟

و عنها قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ( أفضل نساء [أهل] الجنة أربع : خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ) ...

وكان صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكرها حتى قالت عائشة  : ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكرها وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة فربما قلت له كأنه لم يكن في الدنيا إلا خديجة، فيقول إنها كانت وكان لي منها ولد.

وقالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكر خديجة يوما من الأيام فأدركتني الغيرة فقلت هل كانت إلا عجوزاً فأبدلك الله خيراً منها، فغضب حتى اهتز مقدم شعره من الغضب ثم قال: لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني النساء، قالت عائشة: فقلت في نفسي لا أذكرها بسيئة أبدا...

 

وفاتها

توفيت السيدة  خديجة رضي الله عنها بعد أن أخذ الإسلام ينتشر داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها ، حتى وصل إلى الحبشة ، وكانت قد بلغت الخامسة والستين من عمرها ، بعد أن عاشت مع الرسول صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين سنة ، وأنجبت له أولاده جميعاً إلا إبراهيم... وانزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه في حفرتها بمكة  وادخلها القبر بيده، وكانت وفاتها مصيبة بالنسبة للرسول تحملها بصبر وجأش راضياً بحكم الله  سبحانه وتعالى.. وسمى عام وفاتها ( بعام الحزن ) بسبب وفاتها ووفاة عمه أبو طالب المدافع عنه.