خبرتي في الحياة أوصلتني إلى عدم الثقة في شئ

جودت فخر الدين : القصيدة الحديثة تحتضن جميع المواضيع

صنعاء - حوار: محمد السياغي

بيأس كبير يتحدث الشاعر اللبناني المعروف جودت فخر الدين عن الحياة بعد أن أوصلته تجربته إلى حالة من عدم الثقة والتشكيك في كل شيء .. لكن حينما تسأله عن الشعر تشرق عيناه ؛ فالشعر يعتبره عوضاً عن الخسارات في حقول أخرى ويمثل له خشبه الخلاص الوحيدة.

تجربته الشعرية الثرية بالكثير من الخبرة ؛ جعلته يتفرد من بين شعراء جيله بمفرداته. وربما بمغامراته في استخدام مفردات لطالما تجنبها الشعراء.. يطوعها ويصقلها وينعمها مثل معماري ماهر ينحت أحجارا من فوضى الصخر. وإلى جانب رفده للمكتبة العربية بالكثير من الإصدارات المتميزة في مجالات نقدية وفكرية مختلفة.. وكتاباته الدورية في عدد من الصحف العربية .. صدرت له سبعة كتب شعرية كان آخرها "أربع قصائد لليمن"؛ وهي المجموعة التي جاء صدورها مؤخرا ضمن إصدارات صنعاء الثقافية تزامنا مع زيارته لليمن .. حيث كانت مجلة عربيات قد زارته في مقر إقامته بالفندق في العاصمة صنعاء قبل مغادرته .. ورأيناه يجلس في بهو الفندق ، ويده على خده .. بدا واجما ، مكتئبا ، مشتت الذهن .. أنهكه تفكيره ربما بعد جلسة مقيل دافئة .. لكنه لم يهزمه .. سألني قبل أن ابدأ : لماذا تصر على هذا الحوار؟ هل يعنى لك شئ إذا لم تجريه؟ أجبته : يعنى لي الكثير يا أستاذ جودت .. ابتسم في وجهي محاولا إقناعي بالعدول عن محاورته متسائلا : "شو بدك تسألني" ؟ فأجبته أمامي الكثير من الأسئلة والتساؤلات ؟ عدل عن طلبه بعد أن وعدته بأسئلة غير استفزازية . وبعد أن بدأت تجهيز مسجلي للحوار عاود متسائلا : "أنت ستسجل"؟ أجبته بنعم … فأردف "ايش اللي يضمن لي عدم الأخطاء وعدم خروج الحوار مشوه"؟ .. نحن دائما ما نقع في أخطائكم يا صحافيين!! وعدته بتحري الدقة.. فودع الدكتور حاتم.. وبدأت الحوار معه بعد أن وافقني على أجراءه في غرفته تحاشيا للضوضاء التي يعج به بهو الفندق .

 

أستاذ جودت .. أبدأ من النظرة التشاؤمية اليائسة التي لاحظتها في نبرة كلامك معي عن الحياة على المصعد ، والتي تتجلى بوضوح في القصائد الأخيرة التي كتبتها وقرأتها على هامش صباحيتك الشعرية في بيت الثقافة ؟ يا ترى ما سرها؟
بعصبية أجاب .. أولا من قال لك أن عندي نظرة تشاؤمية أو يائسة؟ ليس لدي نظرة تشاؤمية أو يائسة ! فقط هنالك خبرة أو تجربة في الحياة أوصلتني إلى عدم الثقة في شئ .. إلى الحذر من كل شئ .. وأظن أن كل شخص يبلغ مرحلة معينة من العمر يصبح في مثل هذه الحالة ، التي تجعله وكما قلت على حذر من كل شئ .. ونحن في بلادنا العربية أوضاعنا العربية كلها سيئة .. وليس هنالك ما يشجع ! ولذلك نتعامل مع كل الأمور بشيء من التحفظ .... أما ما تجده في قصائدي من نزعة إلى التعامل مع الأشياء بتشكيك ما .. أو بعدم ثقة فذلك يعود إلى أن في شعري نزعة للتأمل في الوجود .. بعض الذين قرأوا شعري يجدون نزعة فلسفية نوعا ما .. وكل نزعة من هذا النوع، تنضوي على شيء يوحي بالتشاؤم ، أو بما يقارب اليأس إذا شئت .


هل حالة عدم الثقة والتشكيك هذه تشمل الشعر أيضا ؟
لا.. الشيء الوحيد الذي أثق به هو الشعر .. الشعر الذي هو طريقة في الحياة .. الشعر الذي هو تعويضا عن الخسارات في حقول أخرى .. فالشعر في نظري هو خشبه الخلاص الوحيدة ، أو الأخيرة.. بهذا المعنى أثق بالشعر.. لان الشاعر يشعر من خلال الكتابة بأنه يعيد تشكيل العالم.

 


بعيداً عن الخسارات .. يا ترى ما هو التعويض أو الذي تحصل لك من تجربتك الشعرية ؟
الثمرة أو النتيجة إذا شئت.. هي لغة مصقولة نوعا ما مخففة من نافل القول .. تعبير دقيق وعميق يتميز بالبساطة وليس بالتعقيد ..لأني اعتبر البساطة في الشعر أصعب من التعقيد .. فمن السهل أن يكون الشاعر معقدا في عباراته.. لكن من الصعب أن يكون بسيطا .. وبعد تجربتي في الكتابة أستطيع أن أقول أنني توصلت إلى نوع من اللغة المصقولة البسيطة.

 


أشرت في كلامك إلى نقطة هامة ، سبق وان اعتبرها المهتمين بتجربتك ميزة تميزك عن شعراء جيلك وهي لغتك الشعرية ، وتحديدا ما وصفوه ربما بمغامراتك في استخدام مفردات لطالما تجنبها الشعراء غيرك ..هل معنى هذا أنك تتفق معهم بأحادية هذه الميزة فقط؟
طبعا المفردات كمفردات موجودة وشائعة ، وهي ملك للجميع ..الشاعر يتفرد بطريقة تعبيره .. بلغته الشعرية .. و أنا دائما ألح على مصطلح أفضله عن غيرة من المصطلحات الأدبية الشعرية هو : مصطلح اللغة الشعرية .. فالشاعر يتميز بلغته الشعرية .. واللغة هنا ليست مجرد مفردات ، ولا حتى صيغ ، أو تعابير.. اللغة هي طريقة في التنفس .. هي طريقة في الرؤية .. لا يرى الشاعر إلا من خلال لغته الخاصة .. لذا هي طريقه في التفكير.. وعندما نقول الشاعر يتميز بلغته الشعرية إذا هو يتميز بتفكيره ورؤاه ، وبطريقته في التأمل ، وفي النظر ،والرفض، والقبول ،والجب .. واليأس إذا شئت .. وفي كل شيء .

 


هل يعنى هذا أنك تعتبر تفردك هذا ذا قيمة في إثراء تجربتك الشعرية ؟
بالتاكيد كما قلت .. التجربة الشعرية كلها يمكن أن تتمثل بالغة الشعرية .. ولا معنى لتجربة شعرية إذا لم تتميز بلغة شعرية .. الشاعر هو لغته الشعرية المتميزة .

 


لكن هل معنى ذلك أن لغة الشاعر كافية لإغناء تجربته ؟
اللغة هي منظومة متكاملة ، تكون حصيلة تراكم معرفي يتكون من الاطلاع الدائم والقراءة والثقافة والاستزادة المستمرة من مناهل المعرفة عموما .. و أنا عندما أدعو لان يكون لكل شاعر لغته التى يتميز بها عن غيره من الشعراء .. ادعو إلى تكوين هذا الرصيد والتراكم المعرفي وربطه دائما بالتواصل مع الشعر .. وبهذا تتكون لديه طريقة خاصة في تعامله الشعري .. أستطيع القول أنها هي اللغة .

 


يا ترى ما هو مشروعك ؟ وما مكوناته ؟ وما هي المرجعية التي شكلت رؤيتك الشعرية ؟
الشاعر الحقيقي دائما مشروعه أن يتجدد ..الاستمرار.. أن لا يكرر في كتاباته .. وبالنسبة لي أحاول دائما أن افتح آفاق جديدة في كتاباتي الشعرية .. وأظن بان القصيدتين التين قرأتهما خلال الصباحية الشعرية ؛ وهما أحدث ما كتبت ، فيهما ما هو جديد بالنسبة إلى تجربتي الشعرية .. وهذا ما أسعى إليه دائما .. فإذا حقق الشاعر ما يتوهم بأنه جديد من قصيدة إلى قصيدة معنى ذلك انه يحقق مشروعة في الكتابة وفي الحياة .. وبالنسبة للمرجعية فقد قرأت معظم الشعر العربي، ومنذ الصغر تجدني متأثر بعيون القصائد العربية وأهمها الشعر الجاهلي ..الشعراء العباسيون مثل أبي تمام والمتنبي والبحتري وما إلى ذلك ، ومازلت على صلة مستمرة بهذا الشعر العربي القديم.. لكن بالنسبة للشعر الحديث فانا أدرسه في الجامعة .. ولهذا تجد أنني استطيع أن أقول أنني اعرفه جيدا ، واعرف كيف انتقده أيضا .

 


لكن ألا ترى في ذلك تناقض بين ما شكل رؤيتك واتجاهك الشعري؟
لا أرى في ذلك تناقض .. وإذا كنت تشير إلى الفروقات بين الشعر الحديث والقديم.. خذ مثلا القصيدة الحديثة لم تعد ذات موضوع كما كانت علية القصيدة القديمة .. وهي بلا موضوع لأنها تحتضن كل المواضيع .. بمعنى آخر القصيدة الواحدة يمكن أن تتكلم في أكثر من موضوع .. وهنا يمكن أن تقول عنها بأنها ذات موضوعات متعددة أو بلا موضوع .. والشاعر العربي يتكلم في قصيدة ما عن كل القضايا العربية المطروحة .. ولكن قد يكون تعبيره على نحو ما غير مباشر ليس كتناول الصحفي والسياسي أو المفكر .

 


ياترى ما هو موضوعك أنت بعد أن كتبت عن الراديو والشرفة في " قصائد خائفة"؟
جيد انك ذكرت هذا السؤال ما يعنى أنك مطلع .. في هذه المجموعة التي أشرت إليها أجواء من الحرب اللبنانية التي عانينا منها طويلا .. وفيها تناولات للأشياء التى كنا نتركها هربا من الحرب ثم نعود إليها بعد فترة .. فنراجع علاقتنا بها .. ويمكنك أن تتصور أن الخائف عندما يترك بيته هربا من الحرب ثم يعود له بعد أسبوع او أسبوعين .. كيف يمكن أن يتعامل معه من جديد ؟ هكذا حاولت في هذه المجموعة أو بعض قصائدها أن أتعامل مع الأشياء وأراجع علاقتي معها .

 


لكن لم تجاوبني ماهي موضوعاتك الشعرية ؟
كما أن الشاعر لا يضع خطة ، ولا يعرف متى يكتب ، ومتى تأتي اللحظة المناسبة للكتابة .. كذلك ليس لدى الشاعر لائحة بالموضوعات .. فالموضوعات تستمد من التجربة الحية الحياتية .. فيمكن أن يكتب الشاعر قصيدة عن الحب في لحظة معينة لم يكن يتوقعها .. وبعد ذلك تجده يكتب بعد فترة قصيدة في موضوع آخر تأتي في ظروف حياتية أخرى .. لهذا لا أستطيع أن أحدد لك قضية معينة .

النقاد ينتقدونك بأنك مازلت تكتب عن الأصدقاء والكتب والخريف والانتظار، على اعتبار ذلك تنحى عن القضايا الأساسية ما هو ردك ؟
وما هي القضايا الأساسية ؟

 


المقاومة ضد الاحتلال مثلا التي كنت أحد رموزها في الجنوب اللبناني؟ الأوضاع العربية الراهنة ؟ بمعنى آخر ملامسة هموم رجل الشارع العربي العادي؟
هذا الكلام غير صحيح .. وكل القضايا التي نعانيها نحن العرب يمكن ان تحضر في القصيدة .. في كل قصيدة على نحو تلقائي وبصورة غير مباشرة أحيانا .. والشاعر يكتب في كل الموضوعات بلغته ورؤيته الخاصة .. أما بالنسبة لما أشرت إليه حول شعراء المقاومة .. نحن الشعراء الذين أتينا من جنوب لبنان حسبنا في فترة معينة شعراء مقاومة ، وأطلق علينا اسم شعراء الجنوب ، وكانت هذه التسمية في الحقيقة تسمية سياسية ربطتنا بالقضية في الجنوب.. و طبعا هناك أمور تربط فيما بيننا من حيث الهموم المشتركة .. ولكن هناك فروقات كبيرة بين الواحد والآخر مما سمي بشعراء الجنوب .. يعنى التسمية لا تقوم على أساس فني لأنه لايوجد علاقة فنية قوية فيما بيننا .. وإنما تقوم على أساس سياسي أو إذا شئت جغرافي .

 


هل يعنى هذا أن لك موقف من هذه التسمية ؟
أنا أرفض التسمية من ناحية فنية .. وأري أن هناك فروقات فيما بين الواحد والآخر ممن أطلق عليهم بشعراء الجنوب .

 


وترفض دلالتها المرتبطة بشعراء المقاومة أيضا ؟
بالنسبة إلى مصطلح شعراء المقاومة في رأيي أن شعر المقاومة لا يكفي أن يحتضن موضوع المقاومة ليكون مقاوما .. المقاوم حقا هو الذي يعطى قيمة للموضوع ولا يستمد قيمته من الموضوع .. ومعظم ما كتب عن المقاومة مثلا ليس جيدا .. والشعر المقاوم هو الشعر الجيد ..هو الشعر الذي يستطيع أن يتجدد أو يتطور .. ولا يكون مقاوما فقط لانه يتكلم عن موضوع المقاومة .. وبهذا المعنى أنا احب أن يكون شعري شعرا مقاوما .. لان هذه صفه بالمعنى الفني صفة حسنه .. مقاوم يعنى انه يستطيع أن يتجدد ليس بمعنى انه يرتبط بمعنى موضوع معين .