في احترام الكلمة

الدكتور غازي القصيبي والدرس الذي لن أنساه

رانية سليمان سلامة

نشرت في عام 2006م في زاوتي بصحيفة عكاظ مقالاً بعنوان "غازي القصيبي.. فارس الحوار الإلكتروني وضحيته"، وواجهت تساؤلات آنذاك حول ماهية الإجابات التي تجرأت على حذفها من حواره مع الزميلة مي كتبي في مجلة عربيات، وعن وعوده التي وفى بها، وحرصه على الإلتزام بالمواعيد.
 
كانت أغلبها إجابات مقتضبة أو شائكة، غير أن تلك التجربة في مقتبل مشواري المهني علمتني الكثير وعرفتني على الرجل الذي يعني كل كلمة يقولها..
أحب الكلمات فداعبها شعراً، ووظفها خطيباً مفوهاً، وكان يزنها بدقة ويعلمنا بمواقفه أن نحترمها..
وعلمنا من تلك التجربة أن نقرأ مابين السطور، ونرفع سقف طموحاتنا ونسعى لتحقيقها دون أن نضرب حواجز وهمية في طريقها..

 
القصة أو ما بعد قصة "تطفلي" على إجاباته وإعادتها إلى قواعدها سالمة كان اتصال جديد من زميلتي مي كتبي لتبلغني بأن الدكتور غازي القصيبي يسأل عن سبب حذف السؤال الأخير؟.
 
أجبتها: وما هي قيمة السؤال الأخير؟

إنه عبارة عن:
مي كتبي تقول: كلمة أخيرة؟
الدكتور غازي القصيبي يجيب: إلى لقاء.


أجابتني: يقول أنه يعني هذه الكلمة ويود أن يكون فيما بينه وبين عربيات تعاون آخر قريباً.
 قلت لها -وأنا مصممة في قرارة نفسي على أن الإجابة عبارة فض مجالس-: القاريء لن يفهم ذلك، ولا يوجد سبب لكي ننشر أن الضيف قال لنا إلى اللقاء أو مع السلامة أو أراكم بخير، فلو أذن لك بتوضيح الإجابة سيتم إعادة السؤال الأخير إلى قواعده سالماً. 
 
رضخت أخيراً للطلب، وتم نشر اللقاء الأول للدكتور غازي القصيبي على الإنترنت عام 2000م، وبالرغم من "الحماقات" المتتالية التي ارتكبتها كنت في قرارة نفسي ممتنة له على دعمنا بهذا اللقاء والالتزام بتجهيزه بفي الوقت المطلوب، وبالخطوة التي تعتبر جسارة في زمن لم تكن فيه الإنترنت بالنسبة للعالم العربي سوى أداة ترفيه ومحادثة ومنتديات.

اقتحم الكبار والمسؤولين والمثقفين الإنترنت من نافذة فتحها الدكتور غازي القصيبي آنذاك.
 
وبعد مرور شهر تقريباً ونحن على أعتاب إصدار العدد التالي تواصل معي الأخ عبدالخالق القرني من أسرة تحرير المجلة موضحاً أنه يملك خطاب للدكتور غازي القصيبي ويود أن نساعده على إيصاله له وهو عبارة طلب منحنا حقوق النشر الحصرية لكتاب (تجربة اليونسكو: دروس الفشل) على الإنترنت في مجلة عربيات.
 
أجبته: هل تمزح؟ 
قال: لا، معاليه وعدنا في ختام اللقاء بتعاون آخر.

أرسلت الخطاب من باب أمانة تسليمه، وأنا أدرك صعوبة النشر لأن الكتاب صادر عن أحد دور النشر المعروفة.
وجاء الرد سريعاً: ألم أقل لكم إلى لقاء قريب؟ وها أنا أمنحكم الحق الحصري لنشر الكتاب إلكترونياً.
 
قد أكون عندها شكرته، وعاودت تذكيره بذلك بعدها بسنوات في الحوار الوطني السابع وأنا أسلمه كتابي الأول والذي تضمن كذلك مقوله قصيرة له عن دور الأميرة عفت الثنيان في تعليم البنات، أما اليوم فلايكفي أن أشكره بل أقول أسأل الله أن يجعل ذلك الدرس في ميزان حسناته، فالرجل الذي يزن كلماته إلى هذا الحد، ويدرك معناها ويحترمها في أبسط التعاملات، يستحق أن نشهد له بأنه حمل الأمانة في مواقع عديدة فأداها، ولا يداخلني شك أنه لربما أخفق اخفاق البشر في بعض المواقف والقرارات، لكنه كان دائماً المسؤول الذي يملك جرأة الإعتراف بالخطأ والإعتذار عنه وبالتالي إحترام عقليه المواطن والوطن الذي عاش يخدمه، وهو كذلك الإنسان الذي غلف عمله بأخلاقيات التعامل والعمل، وإن كان دائماً مثيراً للجدل غير أنه من بين المتجادلين لم يجرؤ أحد على التشكيك في صدق مساعيه لخدمة وطنه ولإحداث تغيير إيجابي في كل موقع تحمل فيه المسؤولية فكان أهلاً للثقة.