إرهاب الجبناء

لندن،، عنها.. ومنها.. وإليها

رانية سليمان سلامة

لندن، المدينة أمضيت فيها حوالي 2700 يوماً متفرقة ومتوزعة على سنوات عمري في رحلات لم أكن أشعر خلالها بأنها رحلات سياحية بقدر ماكنت أشعر أنها زيارة لمتحف يعرض صورة لا تمل من النظر إليها هي صورة الإمتزاج الحضاري... ذلك الامتزاج الذي يتيح لك أن تحتك بالآخرين وتعيش بينهم ومعهم دون أن تضطر للتخلي عن هويتك.... فلندن لاتستقبلك ضيفاً يعيش هدوءها وصخبها ويتجول بين تاريخها وحاضرها فحسب، بل تجدها حريصة على أن تنقل لك بقعة من عالمك وتزرعها في قلبها النابض بالحياة لتنفض عنك إحساس الغربة الذي قد يحيط بك في غيرها من مدن العالم... ستجد مسجدك وطعامك والوجوه التي تعرفها واللغة التي تنطق بها، وتبتسم المدينة وهي تحتضن كل ثقافات العالم دون أن تضيق ذرعاً بها ودون أن تفقد طابعها الخاص.... وهذا مايتيح لسكانها أن يمارسوا السياحة طوال العام دون أن يبرحوا مدينتهم فبضع دقائق تفصلهم عن زيارة شارع عربي وآخر هندي ولايبعد عنه حي إيطالي أو صيني أو ياباني.

الأبرز فيها أن كل ذلك ينسجم في إطار واحد ويخضع لحرية مشروطة بشرط واحد هو ( النظام )، فالمدينة الأنيقة تفرض عليك أن تكون أنيقاً في تعاملك معها ولاتملك خيارات عديدة أمام هذا الشرط فإما أن تصلها مهيئاً للالتزام بالنظام في كل شيء أو أن تتعلمه منها منذ أن تطأ قدمك أرضها.... حتى الفوضى في لندن تمارس بنظام بل المدهش أن هذه المدينة تمكنت من أن تفرض فيما مضى النظام والإتيكيت حتى على العنف والإرهاب... فكانت قنابل الجيش الإيرلندي تستأذن قبل أن تنفجر و تقول:" عذراً، لدينا رسالة نود أن نوجهها لحكومتكم.... فضلاً، تأهبوا لذلك وأبعدوا الأبرياء عن المكان".... ومن يعرف لندن اعتاد بالتأكيد على أن يلقي السلام على شرطي مرور يقف بجانب منطقة مطوقه ويقول:" صباح الخير هل توجد قنبلة اليوم في هذا المكان؟".... فيجيب الشرطي بابتسامة:" نعم، ونعتذر عن إزعاجكم بعد قليل سيتم تأمين المنطقة وتتمكنوا من الوصول إليها".

أما في تفجيرات لندن الأخيرة فقد قرأنا رسالة مختلفة ومختلة تقول:" عفواً، لقد تعذر علينا تصفية حساباتنا مع حكومتكم فقررنا عوضاً عن ذلك أن نقتل الأبرياء"،، التوقيع ( ثلة من المجرمين ).... ولم يتأخر تفسير شيفرة الرسالة المفخخة كونها تحمل نفس التوقيع الذي يشير إلى جماعة تصر على إلصاق تهمة إجرامها بالإسلام والجهاد لتصبح جريمتها مزدوجة.

وفي الواقع إن من يمارس هذه الأفعال أو يتعاطف معها لايعاني من خلل في مفهوم الدين والجهاد والحرب فحسب، بل هو كذلك يعاني من خلل في استيعاب علاقة الإنسان بالأرض وبالانتماء..... فالإنسان ينتمي لأسرته التي تعد بمثابة الوطن الصغير، ثم للبقعة التي احتضنت مولده ونشأته وهي الوطن الأم، ثم لكوكب الأرض الذي سخره الخالق له لتتجاوز علاقته به المكان والزمان وأوراق الثبوتية وشهادة الميلاد وجواز السفر.... تلك الأرض هي وطننا الكبير الذي خضع لتقسيم وتصنيف لم يغير من حقيقة الخلق شيئاً فمن يستبيح بقعة من بقاع الأرض ويعاديها مع من يسكن عليها تغيب عنه حقيقة أن ملكيتها تعود بالأساس للخالق ويسري عليها قانون الإعمار الموكل إلينا وتخضع للتحريم الذي سنت عليه جميع الرسالات السماوية فيما يتعلق بالإفساد في الأرض.

إنه جهل بقانون الحياة كما هو جهل بمفهوم الحرب.... وكما يصعب علينا أن نتعاطف مع شخص جاهل في الطب إذا قرر أن يجري عمليات جراحية خطيرة ليعالج حالات مرضية، فتكون النتيجة أن يقتلهم بجهله بدلاً من أن يعالجهم، من المستحيل أن يتعاطف عاقل مع من يقرر أن يشن حرباً يجهل فيها القوانين والأخلاقيات التي انفرد الإسلام بوضع الضوابط العادلة لها.... لقد اختارت هذه الفئة بدلاً من إتباع تعاليم دينها فيما يتعلق برد العدوان أن تساير جرائم الحرب السائدة بما فيها من ظلم وغدر وبشاعة.

وعندما يمتزج الجهل مع الحقد فلابد أن يكون الناتج قنبلة تنفجر في من يحملها داخل صدره لتقتله قبل أن تصيب أهدافه... ولم تكن أهدافه في تفجيرات لندن سوى أبرياء وقفوا يوماً في مواجهة حكومتهم مناهضين لحربها ضد العراق في أكبر مظاهرة شهدتها الأراضي البريطانية في تاريخها.... وربما كانوا آخرين خرجوا في مسيرات احتجاج احتضنتها نفس المدينة تطالب الحكومة الفرنسية بالعدول عن مشروع قانون حظر الحجاب في المدارس.... اختار أهل الإرهاب أن يكون هذا هو هدفهم وأن يكونوا أبناء من شن الحروب ببربرية بدلاً من أن يكونوا أبناء الإسلام الذي سن للحرب ضوابط، فدفع ثمن إجرام هذا وذاك هنا وهناك أبرياء خطيئتهم أنهم اختاروا الوقوف خارج ساحة الحرب.

اتفقت مع سيدة بريطانية تحاورت معها عبر الإنترنت على أن تركيبة هذا الإرهاب ( جهل وحقد )، على العالم الإسلامي أن لايتبرأ منها فقط ولكن أن يقتلع جذور جهل سكن نفوس بعض أبناءه فيما يتعلق بمفاهيم الحياة والحرب والأرض والإنسانية، وعلى العالم الغربي أن يسهم في إزالة العنصر الثاني من عناصر تركيب القنبلة فلايصدر لنا الحقد مغلفاً بالظلم والاحتلال.... وتجادلنا حول نسبة هذا العمل لاسلاميين فقالت: "لم نبادر بذلك ولكنهم يطلقون هذه التسمية على أنفسهم" فسألتها:" وهل إذا قرر أحد جنودكم في العراق أن يعرف نفسه بالمسيحي وقُتِل على يده أشخاص أبرياء ستقولين بأن المسيحي قتل عراقي؟"... أجابت بـ"لا"، واختتمت حواري معها وأنا أشعر بتقصيرنا في توضيح مواقفنا ومشاعرنا كأفراد للأفراد على الطرف الآخر... ففي الأحداث التي تضرر العالم العربي والإسلامي منها كنا نجد بوادر يقف وراءها الأفراد والمثقفين في الغرب ليبدوا تعاطفهم معنا ومؤازرتهم لنا ويتبرأون من حروب وظلم يمارس باسمهم، كما نجد أن إعلامنا ينقل ذلك وصحفنا تنشر مقالات لأقلام تعكس الصورة الأخرى من عالم يسكنه بشر مثلنا يتحدثون بلغة مختلفة ولكنهم يؤكدون أن الدفاع عن الحق والقيم الإنسانية والأخلاقية واجب مشترك بيننا في مواجهة الجرائم التي نشهدها.... في المقابل صوت الأفراد والمثقفين العرب والمسلمين لم يصل بعد بالشكل المطلوب للطرف الآخر.... فكل الحوارات التي تدور حول هذه العمليات تنحصر على مجالسنا والمقالات الرائعة التي قرأناها في صحفنا قرأناها وحدنا... وثمة مجهود لابد أن يبذل لترجمة كل ذلك إلى لغة يفهمها كل العالم على مستوى الأفراد لتصل رسالتنا ونجد دائماً وفي كل مكان ومع كل حدث من يدرك الحقيقة ويدافع عنها ويحول دون أن تنتشر صور أو مفاهيم مغلوطة عن الإسلام والمسلمين.

وتذكرت سيرينا ولعلكم تتذكرونها، تلك الأمريكية التي التقيت بها العام الماضي في لندن حيث كانت تبحث عن إجابات لبعض الأسئلة قبل أن تشهر إسلامها فنقلت قصتها إلى هذه الزاوية وتركت الدعوة مفتوحة لقراء عكاظ الذين تفاعلوا معها وأبدى عدد منهم الرغبة بالتواصل معها للإجابة عن تساؤلاتها... ووجدت نفسي أتسائل ياترى هل أسلمت؟ هل كان لرسائلنا في نفسها وقع أقوى من وقع تلك القنابل التي تحاول بإصرار أن ترهب الآخرين من الإسلام؟ أم أنها كانت لاتزال تبحث عن ضالتها وتستقل أحد قطارات لندن المنكوبة فقضت نحبها على يد كانت تنتظر منها أن تنير دربها؟

قد لانصدق أن اليد التي أمرت بإماطة الأذى عن الطريق بوسعها أن ترمي قنبلة على أرض لتفسدها وتؤذي من يقف عليها حتى الموت!! أما وقد فعلت فأذن لها أن تقطع أينما وجدت وبأي عذر تذرعت وأي دين تمسحت.... سينجح في قطعها صوت الشعوب وسيف العدالة والتكاتف بين بشر يؤمنون بأن العنف خطيئة بعض البشر وأن الحروب جريمتهم التي يجب التكفير عنها ومواجهتها بلغة العقل شرقاً أو غرباً.

 

رئيسة تحرير مجلة عربيات الإلكترونية

[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ