(التعليم، العدالة الاجتماعية، القضاء على الفساد)

التجربة الفنلندية

رانية سليمان سلامة

لفت انتباهي خلال لقاء رئيسة فنلندا والوفد المرافق لها برجال وسيدات الأعمال في الغرفة التجارية الصناعية بجدة التركيز على ثلاثة عوامل رئيسية هي (التعليم، العدالة الاجتماعية، القضاء على الفساد) فقد سجل هذا الثلاثي الفعال حضوره في كافة الكلمات التي ألقيت وكذلك في الإجابة على أسئلة الحضور حول العناصر التي أسهمت في تحقيق فنلندا لنهضتها الشاملة.

قد يبدو ذلك غريباً بعض الشيء، ففي لقاء ذي صبغة تجارية بوسعك أن تتوقع مسبقاً إجابات مبنية على مبدأ (نجيب من الآخر) حيث يتجه الحديث إلى ضرورة توفير الفرص الاستثمارية وبناء المنشآت واستقطاب الاستثمار الأجنبي ويعرج على الفرص المتاحة في بلد الوفد الزائر والفرص المتوفرة لدى البلد المضيف، ولكن يبدو أن الوفد الفنلندي كان كريماً للحد الذي يجعله يقدم روشتة نهضته والتقدم المبني على أساس متين.


وفقاً لدراسة نشرتها «ريدرز دايجيست» تم تصنيف فنلندا كأفضل بلد يمكنك أن تعيش فيه، كما تم تصنيف هذا البلد الصغير في المرتبة الأولى عالمياً في حماية التنافسية ورعاية الحرية الاقتصادية كما أن نسبة الفساد في الدوائر الحكومية هي (صفر) لايسبقه أي رقم صحيح وفي التقرير السنوي الدولي للشفافية احتلت فنلندا المركز الأول في الشفافية ومحاربة الفساد‏، وهي كذلك الأولى عالمياً في مناهج التعليم علماً بأن التعليم فيها مجاني للمواطن والمقيم، وقد تم القضاء على الفقر ليصبح حتى للعاطلين عن العمل مرتب شهري بالإضافة للعلاج والتعليم والسكن ولاتوجد أزمة مساكن ولاظاهرة عنوسة لأن كل مواطن أو مقيم بالغ يتم منحه شقة مع تكاليف أثاثها.

قد نستغرب احتكارها للمركز الأول في مجالات عديدة بالرغم من أنها لاتتمتع بثروات طبيعية أو مصادر طاقة ولاهي جاذبة للسياحة بسبب طقسها الشديد البرودة ولغتها، ومع ذلك قفزت إلى المرتبة الأولى باستثمارها في الإنسان لتؤكد عملياً بأنه حقاً الثروة التي تستحق الاستثمار فيها لتتفوق حتى على من يفوقك مساحة وثروة وتعداداً.

من الواضح أن ماتقدمه فنلندا لسكانها ليس مجرد رفاهية بل هي عملية محسوبة تؤمن بأنك (تعطي لتأخذ) و (تزرع لتحصد) فحرصها على أن يحصل كل فرد أياً كان مستواه المادي أو جنسه أو لونه أو لغته مادام يعيش فيها على تعليم متميز مجاني يشمل مستلزمات الدراسة والضمان الصحي والمواصلات حقق في نهاية المطاف للدولة بشكل عام هذا التصنيف العالمي المبهر، وهي خطوة خطتها فنلندا عن تخطيط وكأنها كانت ترى المكانة التي تطمح إليها فارتأت أنها صورة لاتكتمل إلا بسكان مؤهلين للتعامل مع أدوات الحضارة ابتداءً من النخبة حتى رجل الشارع دون أن يسقط من التخطيط أحد مكونات النسيج الاجتماعي للدولة.

عندما بحثت عن نظام التعليم في فنلندا لفت انتباهي حرصهم على الهوية واهتمامهم بلغتهم الأم حيث يدرس الطالب الفنلندي في الصف الأول اللغة الفنلندية المحلية بالإضافة للسويدية كلغة قومية. ثم يبدأ في الصف الثالث بدراسة اللغات الأجنبية كالانجليزية والألمانية والروسية وغيرها حتى يتقن في نهاية المطاف أكثر من لغة دون أن يكون ذلك على حساب اللغة الأم التي أثبتت الدراسات أن إجادتها تعد عاملاً مساعداً على تعلم غيرها من اللغات، ولعلنا لذلك أيضاً لاحظنا خلال لقاء الرئيسة الفنلندية والوفد المرافق لها أن اللهجة الفنلندية حاضرة حتى عندما يتحدثون الإنجليزية فحرف (الشين) على سبيل المثال ينطق (سين) وهذا الأمر قد يجده البعض عيباً عندما لايجيد الشخص نطق الكلمات الإنجليزية بلسان أهلها ولكن يبدو أن الفنلنديين لديهم ماهو أهم من ذلك للاهتمام به.

أما فيما يتعلق بالتعليم العالي ففي فنلندا 52 مؤسسة للتعليم العالي بالرغم من أن عدد سكانها لايتجاوز 5 ملايين نسمة غير أن الطموح الفنلندي لم يتوقف عند حد الحصول على المركز الأول في التعليم حيث وجدت مقولة لرئيس الهيئة العليا لشؤون التعليم يؤكد فيها أن نظام التعليم في بلاده لايستحق أكثر من 7 على 10 لأن هناك 20% من الطلاب لايحصلون على تقدير امتياز ولأن اهتمام الأهالي بمتابعة مستوى أبنائهم وبناتهم لايرتقي إلى التطلعات.

أما العدالة الاجتماعية فيبدو أن فنلندا لم ترفعها كشعار بل اعتبرتها المصنع الذي ينتج معززات الحس الوطني لدى أهلها وبالتالي سنت القوانين التي تحفظ حق المواطنة وتكفل المساواة لكافة أفراد المجتمع فحصدت انتماءهم وتفانيهم وقد أشار وزير التجارة والصناعة الفنلندي في لقاء الغرفة التجارية إلى أن الفوارق الطبقية في فنلندا موجودة ولكنها طفيفة على الرغم من وجود التعددية.

في الماضي إذا نظرت إلى الخارطة كان سيصعب عليك أن ترى موقع فنلندا أما اليوم ستجد أن تلك البقعة الصغيرة أصبحت مجسدة وبارزة بملامحها وانجازاتها وهكذا صنعت لنفسها مكانة جديدة بالمقومات الحقيقية لصناعة الحضارة والنهضة.

 

رئيسة تحرير مجلة عربيات الإلكترونية

[email protected]

المصدر: صحيفة عكاظ