طلاب الإمتياز

نريد خدمتكم فلاتمنعونا

رانية سليمان سلامة

خمسة اشهر تقريباً قضيتها واسرتي بجانب الفراش الابيض الذي يرقد عليه والدي, سبقتها ثماني سنوات من الزيارات المتفرقة القصيرة والطويلة لمستشفيات في الداخل والخارج خرجنا منها بقناعة تامة تؤكد ان التقدم الطبي يتطلب ان يسير الاهتمام بتطوير الموارد البشرية في خط متوازٍ مع تطور التقنيات الطبية.

فالعمود الفقري لكل مستشفى هو الكادر الذي يتكون من عدة فقرات مترابطة اهمها الاستشاري والطبيب المقيم والصيادلة والتمريض وطلاب الامتياز وغيرهم من العاملين في المنشآت الطبية.. والمؤكد ان هذا العمود الفقري اذا أُصيبت احدى فقراته بضرر او ضعف ينعكس ذلك مباشرة على الحالات المرضية التي تتلقى العلاج ليجد المرض فرصة سانحة يكسر بها ظهر امل الشفاء في نفوس المرضى وذويهم.

عندما تُلاحق الامل المنشود للعلاج قد تجد نفسك في حيرة تدفعك الى التنقل بين المستشفيات وان كانت المستحيلات في الموروثات القديمة هي الغول والعنقاء والخل الوفي، فالمستحيل الرابع اليوم ان تجد مستشفى تتحقق فيه معادلة تتفاعل فيها عناصر النجاح من الاستشاريين اصحاب الخبرة الذين تمنحهم ثقتك بلا تردد لاتخاذ قرار يتعلق بصحتك او حياتك، وكادر صحي مؤهل على مستوى عالٍ لمتابعة الحالة وتقديم الرعاية الصحية، وتوفر التجهيزات والمعدات الطبية الحديثة.

عليك ان تتحلى بالقناعة وترضى بتوافر احد هذه العناصر وتتحمل مسؤولية اختيارك.. وبالرغم من ان هذه المعادلة يصعب ان تُحقق التوازن التام حتى على المستوى العالمي الا ان الحد الادنى من التوازن لازال مفقوداً في بعض مستشفياتنا الرائدة فلم نعد نندهش بعد عشرة طويلة مع المستشفى المحلي الكبير من وجود عجز في توفير دواء عادي لضغط الدم مثلاً ليصبح علينا احضاره من اقرب صيدلية، كما اننا فقدنا القدرة على التذمر من وجود نقص في فريق التمريض وبدأنا نتكيف مع ضرورة التأهب لتقديم يد المساعدة للممرضة متى ما حضرت وحيدة في مهمة تتطلب اكثر من عشر اصابع. واستسلمنا لحتمية مراجعة الجرعات الدوائية قبل اعطائها للمريض بعد تكرار حالات خطأ في الجرعة بل وفي توقيت الدواء!.

لتلك الحالات الفريدة -والتي اتمنى انها كانت بالفعل استثنائية- ايجابيات فمرافق المريض تصبح لديه خبرة تؤهله ربما لنيل درجة من درجات التمريض وتُساعده على التعامل مع الحالة المرضية في المنزل لاحقاً بخلفية ممتازة.

بين تلك الصور المشوشة كانت تبرز صور مبشرة فيحق لنا ان نفتخر بالاستشاريين السعوديين الذين سجلوا نجاحاتهم على المستوى المحلي والعالمي, ويجدر بنا ان نقدم التشجيع للكوادر الشابة السعودية التي كنا نلمس اجتهادها وتفانيها لتقديم كل ما بوسعها في حدود ما يتوافر لها من امكانيات تدعم العطاء حينا وتحدّه حينا آخر.

كان لابد لي من استرجاع تلك الصور بعد ان وجدت بريدي مكتظا برسائل المناشدة والاستنكار على قرار تخفيض مكافآت اطباء الامتياز وطلاب العلوم التطبيقية ومن بينها رسالة الاخت (بنان حسن خداوردي) طالبة امتياز بكلية الطب قسم مختبرات طبية بجامعة الملك عبدالعزيز, والتي حملت عنواناً يختصر الرسالة هو (نريد خدمتكم فلا تمنعونا) واكراما لها ولذلك العنوان اورد رسالتها كاملة حيث وصفت معاناتها كما يلي: (نحن طالبات الامتياز بقسم المختبرات الطبية بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة, نود اولا ان نشكركم على جهودكم المبذولة في حرصكم على اظهار الحقيقة المطلقة وتطوير الوعي الثقافي لدى المجتمع.. ومن هنا اود ان اطرح بين ايديكم قضية مستعجلة، الا وهي عمل المرأة في المجال الطبي تحت ظروف الخبر الحالي من قرار خفض الرواتب من 4500 ريال الى 2500 ريال، فيجدر بنا التوضيح والتذكير بكل ما نواجهه في عملنا من مشاكل اقتصادية واجتماعية, فهذا التخصص الذي امضت فيه الطالبة اربع سنوات مليئة بالصبر والتضحية منكفئة فيها على مواد طبية صعبة على امل ان تُكافأ بما يعوضها عما فقدته تجد نفسها تُكافأ بمبلغ لايغطي حتى تكاليف مواصلاتها السنوية, مع العلم بان العمل في مجال المختبرات الطبية من أخطر المجالات حيث يتعرض فيه الشخص لمخاطر العدوى نظرا للتعرض المباشر لعينة المريض سواء عن طريق التنفس او اللمس, فلا يكاد يمر بنا موسم لمرض منتشر الا ويكون لنا النصيب الاوفر في الاصابة به مما يتطلب تكاليف علاجية باهظة دون ان يتكفل المستشفى الجامعي بعلاج طلاب وطلبات الامتياز!!.. بالاضافة الى ان معظم الطالبات قد دخلن القفص الذهبي ومبلغ 2500 ريال لا يكفي حتى لرسوم الحضانة بجامعة الملك عبدالعزيز والتي تتراوح ما بين 3000 - 10000 ريال سنويا!! أيعقل ان يمضي طلاب وطالبات الامتياز دواما من الثامنة صباحا وحتى الرابعة والنصف مساء يعملون في مجال مليء بالأخطار الصحية والاقتصادية لأجل خدمة وراحة المريض مقابل 2500 ريال فقط!!).

رسالة أخرى لفتت انتباهي بموضوعيتها لطبيبة الامتياز (نوف العتيبي) التي ابدت استياءَها من القرار واعتبرت ان الاعلان عنه كان مقتضبا دون بشائر او خطة لترحيل هذا التخفيض لقطاعات اخرى متعلقة كزيادة للمرتبات بعد سنة الامتياز لتحفزها على تحمل معاناة عام واحد على الامل بمستقبل افضل ومردود يعادل المجهود المبذول في هذا العمل الشاق... وفي رسالتها الطويلة اعتبرت ان هذا القرار هو بمثابة اعلان تخلي وزارة التعليم العالي عن اطباء الامتياز بعد انتقالهم للعمل في منشآت تتبع لوزارة الصحة وتساءلت: (هل تتكفل اذن وزارة الصحة او تتحمل على الاقل الجزء المستقطع من مكافآت أطباء الامتياز الذين يعملون بدوام كامل ومهام لا غنى للمستشفى عنها؟).

وتتواصل الخطابات على بريدي الذي لا يملك حولا ولا قوة سوى النقل لهذه الزاوية ولما ذكره (منصور الخالدي) الذي استهل رسالته معرفا بنفسه كأحد أطباء الدفعة الاولى التي سيتم تطبيق القرار عليها ومناشدا بأن يتم النظر الى تكاليف المعيشة ومتطلبات العمل قبل تحديد المكافآت والمرتبات.. فعلى حد قوله: (لا يمكن القياس عشوائيا على المقابل الذي يتقاضاه طبيب الامتياز في دول اخرى فقد يكون هناك من يتقاضى اقل من هذا المبلغ ولكنه يكفيه ويتناسب مع انخفاض تكاليف المعيشة في بلده.. وهناك ايضا من لا يتقاضى شيئا مطلقا ولكنه في المقابل يحصل على مميزات مثل الضمان الصحي والسكن والمواصلات والالتحاق المجاني باختبارات الزمالة والدورات والمؤتمرات الكفيلة بتطوير الاداء والمهارات).

واختتم بهذه الرسالة لمنصور طبيب المستقبل بما تضمنت من اشارات الى اهمية سنة الامتياز كمرحلة انتقالية تحدد مسار الطبيب وتتطلب منه مجهودا مضاعفا للتدريب والعمل وتطوير المهارات فإذا كان وراء قرار تخفيض المكافآت حكمة تتجاوز التوفير نتمنى بالفعل ان يتم تخصيصها لإتاحة فرص تسهم بتطوير الاداء الوظيفي لفئة تستحق الاهتمام والاستثمار في تأهيلها قبل ان تفقد حماسها او يخفت عطاؤها.

انهم يستحقون ان نمنحهم الامل اليوم، ليمنحوه لنا في المستقبل القريب

 

* رئيسة تحرير مجلة (عربيات) الإلكترونية

[email protected]
المصدر: صحيفة عكاظ